يتحرك الشيخ إمام بصعوبة وسط حشد عشوائي لا يُبالي برجل كفيف، يتحسس طريقه وسط أجساد تُشعلها الحماسة والنشوة في حفل غنائي راقص، يُجيد بعد دقائق قليلة التكيف مع مُحيطه والإبحار في الظلام والزحام بخبرة حاذقة تليق برجل فقد بصره في شهوره الأولى بالعالم، ثم عاش حياته بأكملها بين أحياء شعبية مُزدحمة وزنازين ضيقة تضج بنُزلاء فوق طاقة استيعابها.
في وثائقي يعود لأوائل التسعينيات، يُخبر الشيخ إمام المخرجة اللبنانية هيني سرور أنه لم يسخط أبداً لفقده البصر مبكراً، لأنه وُهب محله نعمة التلحين وتذوق الموسيقى، وهي بتعبيره:
«هبة لا يُعطاها إلا الملائكة»
تهمس الملائكة للشيخ إمام لينتبه إلى نغمات اللحن الذي يتراقص عليه الجميع، كانت أغنيته الشهيرة «شيد قصورك»، الكلمات لم تتغير، أما اللحن اكتسب إيقاعاً إلكترونياً أكثر صخباً وتحفيزاً على الحركة، إيقاعاً غربياً مُميزاً يقترب من الهيب هوب!
يسأل إمام عن هوية المطرب قبل أي شيء، فهو يؤمن بالآية العزائية في القرآن الذي يحفظه عن ظهر قلب، أن الأبصار لا تعمى مهما فقدت نورها إنما القلوب، باعتبارها مبدأ يقود حياته وفنه. ويجعله يفضل رفقة السجون مع شاعر تجلب كلماته المتاعب دوماً بدلاً من رفقة زائفة تُعمي قلبه جوار بصره. ولذلك لا يهم في الموسيقى إلا بصيرة مؤديها وغرض قلبه.
تُخبره الملائكة أنه شاب سوري يُدعى أمين، فر من سوريا ضمن ملايين بعد هزيمة الثورة هرباً من بطش النظام الذي سجنه سابقاً. وأسس فرقة في ألمانيا تُدعى «شكون» تستعيد ألحان العالم العربي الثورية بمسحة غربية لتجعلها عالمية في وصال فني وشعري مع تجربته وماضيه الشخصي الذي لا يتجزأ عن ماضي الشرق الأوسط بأكمله،
لذلك يظهر بجوار «أمين» في الفيديو كليب الذي أعده لأغنية «شيد قصورك» وبثه على اليوتيوب قبل سبع سنوات، شباب من إثنيات شتى في العالم يعرضون لافتات الحُرية على كلمات الأغنية، وكأنها خلقت وصالها مع كل لغات الأرض.
شعرت الملائكة بالحيرة تعتري ملامح إمام بصفته رجلاً مات قبل تلك الأحداث بزمن طويل، فمنحته موجزاً شعرياً عما فاته، تحدثوا عن ربيع مر على منطقتنا العربية، ثم لم يلبث أن تحول إلى خريف جنائزي لم ينته بعد، رأى الشيخ إمام برؤى القلب، أغنيته «شيد قصورك» يُغنيها التوانسة في سيدي بوزيد، ثم المصريون في ميدان التحرير ثم اللبنانيون في ساحة رياض الصلح ببيروت.
ابتسم الشيخ إمام لصمود فنه عبر الزمن، في نهاية الوثائقي الذي سجل شهادته منذ عقود، سيقول إنه لن يفقد الأمل أبداً، ولو في دندنة أغنية لن يسمعها سوى جار له. تحققت نبوءته وخلدت كلماته بعد موته في ميادين ثورية بشتى بقاع الوطن العربي. وإن كانت ميادين مهزومة.
بدت مسحة الحزن واضحة في ابتسامة الشيخ إمام لأن أجيالاً تلته لم ترث فنه وحسب، إنما ورثت معه الولع التراجيدي بالهزائم، الذي جعل الحُسين بن علي بطلاً مفضلاً له ولصديقه نجم وبوصلة هادية لهما في كل وقت ليكونا خارج قصور السلطة، وحيدين في رحلة قاسية ومُحاطين بالأهل والأحباب لا الجاه والسُلطان مثلما عاش الحُسين دوماً.
سألته الملائكة عن رأيه في اللحن، هز كتفيه وأخبرها بصوت مرتفع يحاول إيجاد حضوره وسط الصخب أن الأغنية تنتمي ملكيتها له لكن روحها تتغير بتغير عصورها، لذلك ربما تكون بشحنتها الإيقاعية الحالية تليق بمنفي في بلد بعيد يستعير لحنه القديم بزخم أكثر حيوية من العود الشرقي ليُحاول وصال عالم غربي لا يسمع صرخاته ولا يعرف تاريخه.
أبدى فقط الشيخ إمام استغرابه لأن التعليقات التي تصل إلى مسامعه ممن حوله في الحفل هي مزيج من لغة عربية وإنجليزية، لهجة مُبعثرة، يصعب أن يتحدثها أولاد البلد، سأل الملائكة ببراءة، أي ميدان ثوري يستضيف حفلة «شكون» ذاك؟
أخبرته الملائكة أنه حفل باذخ الثراء في ملهى بمدينة العلمين الجديدة تابع لمنتجع Silver Sands الفاخر في مصر لذلك يتحدث رواده بتلك الطريقة التي تُميز من تلقى تعليمه كاملاً في مدارس أجنبية من دون مغادرة البلاد لتتخلق له لغة هجينة تبدو على بعثرتها علامة طبقية على قوة المركز الاجتماعي.
شعرت الملائكة بضرورة الاستطراد فأخبرته عن فكرة المُجتمعات والمُنتجعات المسورة التي تُميز مصر حالياً. أماكن رأسمالها كونها نخبوية تختار الأغنياء فقط، ومحمية بعناية من زحف الطبقات الأخرى الأقل حظاً، فقاعة عمرانية يحيا في داخلها أصحابها، حياة ثرية الطابع، من دون أن يضطروا إلى الترحال جغرافياً خارج وطنهم للحياة في أوروبا أو الولايات المُتحدة.
عقد الشيخ إمام حاجبيه، وهو يتذكر أن الأغنياء كانوا يسكنون أحياء القاهرة الراقية وحسب مثل «الزمالك» التي يُمكن فيها أن يعض كلب الست أم كلثوم مواطناً بسيطاً ويفلت من العقاب كما كتب صديقه المشاغب نجم مرة في أشعاره.
توقعت الملائكة أن يغضب الشيخ إمام، لكنه ضحك حتى كاد يفقد توازنه وسط الحشد، بدت أغنيته للمفارقة رغم ثقلها الشعري وانحيازاتها الواضحة للثوار والفقراء، مُناسبة بشدة لما ترويه الملائكة. إذ يبدأ مطلعها بنبوءة تتحدث عن تجريف جغرافي مُتعمد للمزارع والجناين وكل مكان يُمكن أن يلتقي فيه الثوار والمُحبون وملح الأرض لصالح قصور وسجون لا تشترك في شيء سوى كونها مُسورة!
تذكر الشيخ إمام أن ذروة فنه أداها في السجون المُسورة، كان يتسلق الدكة في زنزانته ليصل إلى الشباك ثم يشدو بألحانه وكلماته في الواحدة صباحاً، ولا يزيده طرب النُزلاء الساهرين واستحسانهم إلا حماسة. حتى أدرك النظام في الستينيات أن سجنه كان كارثياً لأنه يمنح أغانيه شعبية جارفة في أوساط المسجونين السياسيين الذين لا يلبثون أن يخرجوا لنشرها بين دوائرهم.
كان حبس الشيخ إمام يمنحه للمفارقة حرية في بث فنه لمن يقصدهم تحديداً بكلماته، الثوار والمشاغبين و الساخطين.
لم يخطر له يوماً أن تصدح ألحانه في سجن لكنه اختياري، مُجتمعات ومنتجعات مسورة، يقطنها أصحابها هرباً، تحديداً، من كادرات عشوائية يمكن أن يسكنها خليطه الشعبي الشهير من الفلاحين والطلبة والعمال كما تقول أغنيته:
«عمال وفلاحين وطلبة...
دقت ساعتنا وابتدينا»
ما يثير حفيظة الشيخ إمام ليست إعادة تدوير أغنيته من منفي في غُربته ليشعر بالوصال إنما ما يتراءى له في الحفل، أن المُطرب أميناً وفريقه «شكون» في تواصله مع الجمهور المُنتشي بإيقاعاته، كأنه لا يزال يُغني لجمهور غريب في المنفى، كأنه يتواصل مع الجمهور الألماني الذي استمع لفرقته لأول مرة، يبدو كأنه يُقدم أيقونة موسيقية قديمة لجمهور أجنبي غير مصري، حشد لا يرى وصالاً بينه و«شيد قصورك» ولو باعتبارها تُراثاً يخصه.
أجاد الشيخ إمام في أغنياته ربط انحيازاته المحلية بانحيازات عالمية للحق والعدل في نظره، فذكرت أغانيه جيفارا وهوشي منه، كرفاق في معركة واحدة ضد الإمبريالية العالمية، لكنه الآن يتخبط برحلة مستقبلية برفقة الملائكة في رحاب عصر مُعولم بغرابة ساخرة.
عصر يُمكن فيه أن يتحول جيفارا من أيقونة في ألحانه إلى مُلصق على سيارة أو على قميص يرتديه شاب أمريكي ثري من فلوريدا لا يعرف جيفارا من الأساس ولا يراه إلا موديلاً يبدو وسيماً مثل أبطال تلفاز الواقع، بينما يُمكن أن تتحول فيتنام والبقع الساخنة التي كست كفاح الاستقلال في زمن الشيخ إمام إلى مُنتج تلفزيوني لنتفليكس يغفل فيتنام وسكانها وأبطالها كلهم لصالح جندي أمريكي عائد من الحرب بكرب ما بعد الصدمة ليقع بالحب في رومانسية حالمة موجهة لجمهور أبيض البشرة.
شعر الشيخ إمام بالغُربة عن الحماسة التي تستشري في الأجساد حوله، لم يكن انتشاء طربياً أو ثورياً، كان مثل الأمثلة السابقة، استحساناً جمالياً لمُنتج EXOTIC منفصم عن جذوره، مثلما يحدث لك عندما تستمع لأغنية أجنبية لا تفهم لغتها ولا ألفاظها ولا أصلها لكن جمالها يسري في أوصالك.
قاتل الشيخ إمام ونجم، الانفتاح في زمنهما باعتباره مفهوماً اقتصادياً مُحدداً يدمر الأسواق المحلية لصالح الاستيراد ويُثير تغيرات طبقية عنيفة تخلق طبقات مُتطفلة، ومعها تستشري أخلاق الحيلة والفهلوة بدلاً من قيم العمل الجاد التي اعتنقتها الطبقة الوسطى لعقود.
لم يحيَ بما يكفي ليشهد الانفتاح باعتباره عولمة ثقافية مُسكرة ومُثقلة، يُمكن فيها أن يحضر فنان سوري منفي من وطنه بإيقاعات ألمانية وهيب هوب أوروبي ليُحيي أغنية من تأليفه لجمهور ثري في مُجتمع مسور بأسوار شاهقة بناء على رغبة أصحابه، يستعذبها وينتشي على إيقاعها، ولا يعلم أنها أغنية قديمة جداً تصف مشهداً قديماً جداً. تغير كثيراً في جغرافيته وسبل تواصله وسُرعة تداول فنه، لكنه لم يتغير إنشاً في مأزقه الجمالي والعام الذي لأجله لحن تلك الأغنية منذ عقود.
همست له الملائكة أن الفن يمنح صاحبه الخلود، ولكن كيفية هذا الخلود وطريقته تتغير بمشارب الناس وتحولات الأزمنة. حرك الشيخ إمام أصابعه لا إرادياً كأنه يدندن على عود وهمي لا يراه سواه، بدا كأن الحماسة تسربت من الحشد له وألهمته أغنية جديدة يصف بها حال زمن سيأتي بعده بعقود، لكنه ربت بيده الأخرى على أصابعه المُتمردة ليخبرها أنه ميت وأن نجماً صديقه ميت كذلك، والموتى قد يشهدون الحوادث بشكل شعري لكن فنهم وإرثهم لا يُستنطق إلا بيد الأحياء.
شعر إمام بحنين جارف لنجم الذي كان يُمكن بلفافة تبغ مُلغمة بالمكيفات الروحية أن يُحقق وصالاً أسرع مع تغيرات هذا الزمن، ربما كان ليصف له الحفل بتفاصيل وألفاظ تعاف أن تسردها الملائكة لكنها ستبدو على فجاجتها قادرة على احتواء ما يصفونه.
غادر الشيخ إمام مُستغرباً تقلبات الدهر وأفعال الزمن، وقد بدت زنزانته القديمة على ضيقها وبردها القارس وهو يغني عبر قضبانها في الواحدة صباحاً أكثر براحاً وأُلفة من الساحة العملاقة التي تستضيف الحفل الراهن. وبدا زمنه على قسوته أكثر حناناً بمألوفيته من مستقبل تلاه منح أجيالاً جاءت بعده الأحلام والهزائم، والانتصارات والانكسارات مُضاعفة ألف مرة عما اختبره يوماً. لذلك يليق بأجيال شهدت كل ذلك أن تحيا فانتازيا غرائبية أكبر من قدرته على تفسيرها وأكثر من قدرتهم على تحملها.